الوسطية.. حقيقة هذا الدين!
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الوسطية.. حقيقة هذا الدين!
الوسطية.. حقيقة هذا الدين!
العسر والتنطّع ليس من سمات هذه الشريعة تماماً، كما أن التساهل والتميع ليس من سماتها. وكثيراً ما يدعو إلى هذا وذاك قلةُ الفقه في الدين، والجهلُ بمقاصد الشرع وأصول الملة. وحقٌ على أهل الإسلام أن يسلكوا مسالك التوسط والتيسير في الأمر كلّه، لكن بلا مداهنة ولا مجاملة ولا مجافاة للحق.. فحقيقة هذا الدين كما يؤكد فضيلة الدكتور سعد بن عبد الله البريك – هي الوسطية التي ميَّزت هذه الأمة الخاتمة وجعلتها أمة وسطا شاهدة على كل الأمم الأخرى. صراع مع هذه الحقيقة
يبيَّن الشيخ البريك في محاضرته أن بعض الناس خاضوا في صراعات مع هذه الحقيقة باسم الإصلاح، وآخرون فتحوا جبهة مخروقة باسم الدعوة. وليس هناك وصف لهؤلاء وهؤلاء- كما يقول فضيلته- أبلغ من قول الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه حين قام ينصح بعض المنحرفين فاعتذروا بقولهم: ما أردنا إلا الخير، فقال لهم قولاً مليئاً بالحكمة وعمق البصيرة ورجاحة العقل: (وكم من مريد للخير لن يصيبه). إن من كيد (إبليس) أنه يتتبع نفس المسلم ويَشُمُّها حتى يعلم أي المحبتين تغلب عليها: محبة الدين أم محبة الدنيا، فإن رأى أن الغالب على النفس حب الدنيا والشهوات والإخلاد إلى الأرض زاد في إضعافها وثقّلها عن الواجب وزين لها الشهوات، حتى تترك دينها كله أو تقصر فيه وتتهاون به. وإن رأى أن الغالب عليها حب الدين والحرص على الخير وسوس لصاحبها أن الذي يفعله من الخير قليل ولا بد من الاستكثار والزيادة، فيوقعه في التنطع والتشدد والغلو.
يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: (ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى غلو، وإما إلى تقصير، والحق وسط بين ذلك”. وأكثر الناس قد أخذوا في هذين الواديين وادي التقصير ووادي التعدي والمجاوزة، والقليل منهم من ثبت على حقيقة الدين والصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. تجاوز قوم الحد؛ فتشددوا وتنطعوا في الدين، وقصَّر آخرون فأعرضوا عن تزكية أنفسهم حتى أظهروا القبائح )وتجاهروا بالفسق دون حياء أو خوف {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 9 - 10]. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات”.
حقيقة التيسير
ويؤكد الشيخ البريك أن دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدّة، ويسرٌ من غير عسر، ورفع للحرج عن الأمة { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]، {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء: 28]. ولقد فهم البعض من القول بيسر الشريعة وتحذيرها من التشديد أنه دعوة إلى التساهل في أمور الدين عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً، أو ترغيباً في التنصل من أحكام الإسلام والضعف في نصرة الدين والحق. وهؤلاء في شطط وبعد عن الحقيقة. فليس من التيسير التساهل بالأحكام الشرعية والأوامر الربانية، وليس من التيسير التهاون بالمنكرات، وليس من التيسير التنكر للفضائل وأصول الأخلاق والتساهل بالموبقات، وليس من التيسير الإهمال في تربية البنين والبنات، وتركهم نهباً لزيغ العقائد وتيارات الإلحاد والبعد عن الالتزام بأحكام الإسلام والحفاظِ عليهم من دواعي الفجور واللهو المحرم بحجة التحضّر والبعد عن التعقيد وتغيّر الزمان. وليس من التيسير ما يسلكه البعض حين يدَّعون سماحة الدين أمام أعداء الإسلام، ويتنصلون من أحكامه وتعاليمه، ثم هم من أشدّ الناس على الصُّلحاء والأخيار، بل قد يوظِّفون دعوى التيسير أداةً لقمع الدعوة إلى الحق وكبت الخير وتكبيله بحجة مسايرة العصر. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور”.
الوسطية ميَّزت الأمة الخاتمة
ويضيف فضيلته: إن من يجيل النظر في جوانب هذا الدين ويمعن فكره في نواحي عظمته وشواهد حكمته يجد أن هناك سمةً بارزةً وميزةً ظاهرةً وحقيقة راسخة كانت سبباً في تبوّؤ هذه الأمة مكانتها المرموقة بين الأمم، ومنحِها مؤهلات القيادة والريادة للبشرية، ومقومات الشهادة على الناس كافة. إنها حقيقة الاعتدال والوسطية التي تُجَلّي صور سماحة الإسلام، وتبرز محاسنه ورعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية الكبرى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل الآخذِ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرت إلى كلية شرعية فتأملها تجدها حاملةً على التوسط والاعتدال، ورأيت التوسط فيها لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يُرجع إليه، والمعقِل الذي يُلجأ إليه). ويقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: (الأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير). وتتجلّى حقيقة هذه الوسطية في كافة مجالات الحياة: ففي مجال الاعتقاد جاء الإسلام وسطاً بين الملل كلها، فلا إلحاد وإعراض بالكلية، ولا تدين يشوبه شرك، بل عبودية خالصة لله في الربوبية والألوهية. {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة: 5]. وفي مسألة الإيمان وسطٌ بين من جَفَوْا فلم يتعاهدوا إيمانهم ولم يتمسكوا بدينهم، وبين من غلَوا فأخرجوا من دائرة الإيمان من عمل بعض المعاصي. والبعض كفروا بالكبيرة، وأهل الحق لا يكفِّرون بالذنوب ما لم تُستحلّ، كما لم يجعلوا المذنب كامل الإيمان، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
وفي مسألة الغرائز والشهوات نجد أن أقواماً أعرضوا عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح وتلبية الغرائز بالطرق المباحة، بينما تجاوز آخرون وتهاونوا بالأعراض فارتكبوا الزنا واللواط. لكن هذه الملة السمحة راعت مقتضيات الفطرة وحققت الانسجام الكامل بين متطلبات الروح والجسد، بلا غلو في التجرّد الروحي، ولا ارتكاس في الدرَك المادي، فلا رهبانية ولا مادية، بل تناسق واعتدال، بنور من قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون رضي الله عنه عن التبتل، وأنكر صلى الله عليه وسلم على من حرَّم نفسه طيبات الدنيا قائلاً: “أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”. رواه البخاري ومسلم. كما حذَّرت الملة من الزنى وإطلاق العنان للشهوات والنزوات. قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [الإسراء: 32]، وقال صلى الله عليه وسلم: ” لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن”. رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
لا جمود وتحجر ولا انفلات وذوبان
ويشدد الشيخ البريك على أهمية التوسط في قضية التحليل والتحريم مبينا أن شريعة الإسلام، توسطت بين المتنطعين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات، وبين المتساهلين الذين استهانوا بالمحرمات والمنهيات. وفي منهج النظر والاستنباط نجد أن هذا الدين وازن بين الحفاظ على مصادر التلقي والاحتكام والرجوع إليها، وبين الاستفادة من كل ما هو جديد في عالم المعرفة والتطور، فلا جمود وتحجر وتقوقع، ولا انفلات وذوبان في حمأة المادية، بل استِفادة من كل ما هو جديد مع المحافظة على الثوابت. وفيما يتعلق بالمرأة، جاءت هذه الشريعة الغراء والمرأة مظلومة بين جاهليتين، فكرَّمتها وحفظت حقوقها، وأكّدت على مكانتها وعِظم منزلتها، وجعلتها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظرت إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقا من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال صلى الله عليه وسلم: “إنما النساء شقائق الرجال”. رواه أحمد وأبو داود والترمذي. كما سمت بها أن تكون أجيرة مستعبدة تُعامَل كسِقط المتاع، فإنها صانتها من الوقوع في مستنقعات الرذيلة، وكفلت لها حريتها الشرعية، ونأت بها عن مسالك التحرر من القيم والهبوط إلى براثن الإباحية والانحلال، والانسلاخ من الفضائل وسلوك مسالك التبرج والسفور والاختلاط المحرم. إلى غير ذلك من الدعوات التي تنطلق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة منتنة، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة. وفي مجال الأخلاق والسلوك تبرز حقيقة هذا الدين في قدرته على التوازن بين الجنوح إلى المثالية وبين الواقعية، فشرع وسطيةً تزكي المشاعر، وتهذّب الضمائر، وتسمو بالتفكير والشعور، وتوازن بين متطلبات الفرد والمجتمع، وإعمال العقل والعاطفة، في تربية متوازنة، وتنسيق متَّسق بديع، على ضوء المنهج النبوي: “إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه” أخرجه أحمد ومسلم.
وفي النظام الاقتصادي تجلت الوسطية في الموازنة بين حرية الفرد وحق المجتمع، فهي تحترم الملكية الفردية وتقرها، ولكن هذبتها بحيث لا تضر بمصلحة المجتمع. جاء الإسلام وسطاً بين رأسمالية ترعى الفرد على حساب الجماعة، واشتراكية تلغي حقوق الأفراد وتملُّكَهم بحجة مصلحة الجماعة. وفي مجال الإنفاق قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67]، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (هو الحسنة بين سيئتين)، والمراد أن الإسراف سيئة والتقتير سيئة والحسنة ما بين ذلك، فخير الأمور أوسطها. وبرغم هذا السمو في التشريع فإننا نجد أقواماً منعوا الزكاة الواجبة وبخلوا بأموالهم، وآخرين تجاوزوا الحد فأخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا يسألون الناس ويطمعون بما في أيديهم. ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كِلا طرفي قصد الأمور ذميم وفي مجال حرية الفرد وحرية الرأي والفكر والسلوك وغيرها، نجد أن هذه الشريعة أباحتها ولم تمنعها، بل جعلت لها ضوابط بحيث تكون ضمن دائرة المشروع ومجانبة المحذور الممنوع. فلا إباحية فيما يكتب ولا إلحاد فيما ينشر ولا تمرد في السلوك على ضوابط الشريعة وقواعد الأخلاق والآداب العامة.
قيم الحق والعدل والسلام
ويختتم الدكتور البريك محاضرته بالتأكيد على وسطية الإسلام في النظام السياسي، موضحاً أن شريعة الإسلام حققت الوسطية بين النظم، مبيِّنةً حقوق الراعي والرعية، حاضةً على العدل والقسط، معليةً قيم الحق والأمن والسلام والسمع والطاعة بالمعروف، مترسمةً المنهج الشوري المتكامل، وهي بهذا سبقت شعارات الديمقراطيات المعاصرة إلى تحقيق منافع البلاد والعباد في بعدٍ عن الاضطراب والفوضى، واجتنبت الدكتاتورية في الحكم والاستبداد في الرأي { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 159]. ومما يجلي حقيقة هذا الدين أنه جمع بين الأصالة والمعاصرة؛ بين الاعتصام بوحي معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبين مواكبة تطورات العصر. لا كما يتوهمه البعض أنه ليس بين المسلمين وبين صناعة الطائرات سوى تمزيق الحجاب، وأنه ليس بينهم وبين التقدم والتطور سوى تنحية الشريعة، وأنه ليس بينهم وبين التوصل إلى تقنية الأقمار الصناعية سوى جعل الناس ينحدرون في مستنقع الرذائل ويلِغون في معاصٍ تكاد السماوات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. إن الإسلام تميز بالثبات والمرونة، وحسن التعامل مع المتغيرات، ووضع الضوابط للتكيف مع المستجدات، فهو بثوابته وأصوله يستعصي على التميع والذوبان. وإن المساومة على هذه الثوابت لهو خيانة عظمى، وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه؛ إذ شرف المرء وشرف المجتمع إنما هو في الانتساب إلى الإسلام، والعمل به، والدعوة إليه، والثبات عليه حتى الممات.
إن حقيقة هذا الدين: وسطية شاملة جامعة لكل أمور الدين والدنيا والآخرة، بل إنها وجه من وجوه الإعجاز فيه وسبب لصلاحيته لكل زمان ومكان. إن هذه الوسطية تجعل مسؤولية الأمة الإسلامية عظيمة ودورَها في ريادة العالم مُلِحّ، فهي أمة رائدة تقود البشرية إلى ما فيه خيرها وسعادتها، قيادةً تُصان فيها الحقوق، وتتحقق العدالة، وتُحفظ الكرامة، ويُبسط السلام، وتُبنى الحضارة بأسس ثابتة من التقوى والخير والعدل والسلام، بعد أن شقي العالم بألوان الصراعات، وأُنهكت البشرية بأنواع من الصدامات، فإن الأمل – بعد الله – في أن تـنهض هذه الأمة من عثرتها وتفيق من غفلتها وتجمع من شتاتها لتمارس دورها الريادي وتؤسس مشروعها الحضاري بمنهج قويم وصراط مستقيم {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].
العسر والتنطّع ليس من سمات هذه الشريعة تماماً، كما أن التساهل والتميع ليس من سماتها. وكثيراً ما يدعو إلى هذا وذاك قلةُ الفقه في الدين، والجهلُ بمقاصد الشرع وأصول الملة. وحقٌ على أهل الإسلام أن يسلكوا مسالك التوسط والتيسير في الأمر كلّه، لكن بلا مداهنة ولا مجاملة ولا مجافاة للحق.. فحقيقة هذا الدين كما يؤكد فضيلة الدكتور سعد بن عبد الله البريك – هي الوسطية التي ميَّزت هذه الأمة الخاتمة وجعلتها أمة وسطا شاهدة على كل الأمم الأخرى. صراع مع هذه الحقيقة
يبيَّن الشيخ البريك في محاضرته أن بعض الناس خاضوا في صراعات مع هذه الحقيقة باسم الإصلاح، وآخرون فتحوا جبهة مخروقة باسم الدعوة. وليس هناك وصف لهؤلاء وهؤلاء- كما يقول فضيلته- أبلغ من قول الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه حين قام ينصح بعض المنحرفين فاعتذروا بقولهم: ما أردنا إلا الخير، فقال لهم قولاً مليئاً بالحكمة وعمق البصيرة ورجاحة العقل: (وكم من مريد للخير لن يصيبه). إن من كيد (إبليس) أنه يتتبع نفس المسلم ويَشُمُّها حتى يعلم أي المحبتين تغلب عليها: محبة الدين أم محبة الدنيا، فإن رأى أن الغالب على النفس حب الدنيا والشهوات والإخلاد إلى الأرض زاد في إضعافها وثقّلها عن الواجب وزين لها الشهوات، حتى تترك دينها كله أو تقصر فيه وتتهاون به. وإن رأى أن الغالب عليها حب الدين والحرص على الخير وسوس لصاحبها أن الذي يفعله من الخير قليل ولا بد من الاستكثار والزيادة، فيوقعه في التنطع والتشدد والغلو.
يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: (ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى غلو، وإما إلى تقصير، والحق وسط بين ذلك”. وأكثر الناس قد أخذوا في هذين الواديين وادي التقصير ووادي التعدي والمجاوزة، والقليل منهم من ثبت على حقيقة الدين والصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. تجاوز قوم الحد؛ فتشددوا وتنطعوا في الدين، وقصَّر آخرون فأعرضوا عن تزكية أنفسهم حتى أظهروا القبائح )وتجاهروا بالفسق دون حياء أو خوف {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 9 - 10]. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات”.
حقيقة التيسير
ويؤكد الشيخ البريك أن دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدّة، ويسرٌ من غير عسر، ورفع للحرج عن الأمة { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]، {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء: 28]. ولقد فهم البعض من القول بيسر الشريعة وتحذيرها من التشديد أنه دعوة إلى التساهل في أمور الدين عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً، أو ترغيباً في التنصل من أحكام الإسلام والضعف في نصرة الدين والحق. وهؤلاء في شطط وبعد عن الحقيقة. فليس من التيسير التساهل بالأحكام الشرعية والأوامر الربانية، وليس من التيسير التهاون بالمنكرات، وليس من التيسير التنكر للفضائل وأصول الأخلاق والتساهل بالموبقات، وليس من التيسير الإهمال في تربية البنين والبنات، وتركهم نهباً لزيغ العقائد وتيارات الإلحاد والبعد عن الالتزام بأحكام الإسلام والحفاظِ عليهم من دواعي الفجور واللهو المحرم بحجة التحضّر والبعد عن التعقيد وتغيّر الزمان. وليس من التيسير ما يسلكه البعض حين يدَّعون سماحة الدين أمام أعداء الإسلام، ويتنصلون من أحكامه وتعاليمه، ثم هم من أشدّ الناس على الصُّلحاء والأخيار، بل قد يوظِّفون دعوى التيسير أداةً لقمع الدعوة إلى الحق وكبت الخير وتكبيله بحجة مسايرة العصر. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور”.
الوسطية ميَّزت الأمة الخاتمة
ويضيف فضيلته: إن من يجيل النظر في جوانب هذا الدين ويمعن فكره في نواحي عظمته وشواهد حكمته يجد أن هناك سمةً بارزةً وميزةً ظاهرةً وحقيقة راسخة كانت سبباً في تبوّؤ هذه الأمة مكانتها المرموقة بين الأمم، ومنحِها مؤهلات القيادة والريادة للبشرية، ومقومات الشهادة على الناس كافة. إنها حقيقة الاعتدال والوسطية التي تُجَلّي صور سماحة الإسلام، وتبرز محاسنه ورعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية الكبرى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل الآخذِ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرت إلى كلية شرعية فتأملها تجدها حاملةً على التوسط والاعتدال، ورأيت التوسط فيها لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يُرجع إليه، والمعقِل الذي يُلجأ إليه). ويقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: (الأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير). وتتجلّى حقيقة هذه الوسطية في كافة مجالات الحياة: ففي مجال الاعتقاد جاء الإسلام وسطاً بين الملل كلها، فلا إلحاد وإعراض بالكلية، ولا تدين يشوبه شرك، بل عبودية خالصة لله في الربوبية والألوهية. {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة: 5]. وفي مسألة الإيمان وسطٌ بين من جَفَوْا فلم يتعاهدوا إيمانهم ولم يتمسكوا بدينهم، وبين من غلَوا فأخرجوا من دائرة الإيمان من عمل بعض المعاصي. والبعض كفروا بالكبيرة، وأهل الحق لا يكفِّرون بالذنوب ما لم تُستحلّ، كما لم يجعلوا المذنب كامل الإيمان، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
وفي مسألة الغرائز والشهوات نجد أن أقواماً أعرضوا عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح وتلبية الغرائز بالطرق المباحة، بينما تجاوز آخرون وتهاونوا بالأعراض فارتكبوا الزنا واللواط. لكن هذه الملة السمحة راعت مقتضيات الفطرة وحققت الانسجام الكامل بين متطلبات الروح والجسد، بلا غلو في التجرّد الروحي، ولا ارتكاس في الدرَك المادي، فلا رهبانية ولا مادية، بل تناسق واعتدال، بنور من قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون رضي الله عنه عن التبتل، وأنكر صلى الله عليه وسلم على من حرَّم نفسه طيبات الدنيا قائلاً: “أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”. رواه البخاري ومسلم. كما حذَّرت الملة من الزنى وإطلاق العنان للشهوات والنزوات. قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [الإسراء: 32]، وقال صلى الله عليه وسلم: ” لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن”. رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
لا جمود وتحجر ولا انفلات وذوبان
ويشدد الشيخ البريك على أهمية التوسط في قضية التحليل والتحريم مبينا أن شريعة الإسلام، توسطت بين المتنطعين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات، وبين المتساهلين الذين استهانوا بالمحرمات والمنهيات. وفي منهج النظر والاستنباط نجد أن هذا الدين وازن بين الحفاظ على مصادر التلقي والاحتكام والرجوع إليها، وبين الاستفادة من كل ما هو جديد في عالم المعرفة والتطور، فلا جمود وتحجر وتقوقع، ولا انفلات وذوبان في حمأة المادية، بل استِفادة من كل ما هو جديد مع المحافظة على الثوابت. وفيما يتعلق بالمرأة، جاءت هذه الشريعة الغراء والمرأة مظلومة بين جاهليتين، فكرَّمتها وحفظت حقوقها، وأكّدت على مكانتها وعِظم منزلتها، وجعلتها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظرت إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقا من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال صلى الله عليه وسلم: “إنما النساء شقائق الرجال”. رواه أحمد وأبو داود والترمذي. كما سمت بها أن تكون أجيرة مستعبدة تُعامَل كسِقط المتاع، فإنها صانتها من الوقوع في مستنقعات الرذيلة، وكفلت لها حريتها الشرعية، ونأت بها عن مسالك التحرر من القيم والهبوط إلى براثن الإباحية والانحلال، والانسلاخ من الفضائل وسلوك مسالك التبرج والسفور والاختلاط المحرم. إلى غير ذلك من الدعوات التي تنطلق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة منتنة، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة. وفي مجال الأخلاق والسلوك تبرز حقيقة هذا الدين في قدرته على التوازن بين الجنوح إلى المثالية وبين الواقعية، فشرع وسطيةً تزكي المشاعر، وتهذّب الضمائر، وتسمو بالتفكير والشعور، وتوازن بين متطلبات الفرد والمجتمع، وإعمال العقل والعاطفة، في تربية متوازنة، وتنسيق متَّسق بديع، على ضوء المنهج النبوي: “إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه” أخرجه أحمد ومسلم.
وفي النظام الاقتصادي تجلت الوسطية في الموازنة بين حرية الفرد وحق المجتمع، فهي تحترم الملكية الفردية وتقرها، ولكن هذبتها بحيث لا تضر بمصلحة المجتمع. جاء الإسلام وسطاً بين رأسمالية ترعى الفرد على حساب الجماعة، واشتراكية تلغي حقوق الأفراد وتملُّكَهم بحجة مصلحة الجماعة. وفي مجال الإنفاق قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67]، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (هو الحسنة بين سيئتين)، والمراد أن الإسراف سيئة والتقتير سيئة والحسنة ما بين ذلك، فخير الأمور أوسطها. وبرغم هذا السمو في التشريع فإننا نجد أقواماً منعوا الزكاة الواجبة وبخلوا بأموالهم، وآخرين تجاوزوا الحد فأخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا يسألون الناس ويطمعون بما في أيديهم. ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كِلا طرفي قصد الأمور ذميم وفي مجال حرية الفرد وحرية الرأي والفكر والسلوك وغيرها، نجد أن هذه الشريعة أباحتها ولم تمنعها، بل جعلت لها ضوابط بحيث تكون ضمن دائرة المشروع ومجانبة المحذور الممنوع. فلا إباحية فيما يكتب ولا إلحاد فيما ينشر ولا تمرد في السلوك على ضوابط الشريعة وقواعد الأخلاق والآداب العامة.
قيم الحق والعدل والسلام
ويختتم الدكتور البريك محاضرته بالتأكيد على وسطية الإسلام في النظام السياسي، موضحاً أن شريعة الإسلام حققت الوسطية بين النظم، مبيِّنةً حقوق الراعي والرعية، حاضةً على العدل والقسط، معليةً قيم الحق والأمن والسلام والسمع والطاعة بالمعروف، مترسمةً المنهج الشوري المتكامل، وهي بهذا سبقت شعارات الديمقراطيات المعاصرة إلى تحقيق منافع البلاد والعباد في بعدٍ عن الاضطراب والفوضى، واجتنبت الدكتاتورية في الحكم والاستبداد في الرأي { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 159]. ومما يجلي حقيقة هذا الدين أنه جمع بين الأصالة والمعاصرة؛ بين الاعتصام بوحي معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبين مواكبة تطورات العصر. لا كما يتوهمه البعض أنه ليس بين المسلمين وبين صناعة الطائرات سوى تمزيق الحجاب، وأنه ليس بينهم وبين التقدم والتطور سوى تنحية الشريعة، وأنه ليس بينهم وبين التوصل إلى تقنية الأقمار الصناعية سوى جعل الناس ينحدرون في مستنقع الرذائل ويلِغون في معاصٍ تكاد السماوات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. إن الإسلام تميز بالثبات والمرونة، وحسن التعامل مع المتغيرات، ووضع الضوابط للتكيف مع المستجدات، فهو بثوابته وأصوله يستعصي على التميع والذوبان. وإن المساومة على هذه الثوابت لهو خيانة عظمى، وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه؛ إذ شرف المرء وشرف المجتمع إنما هو في الانتساب إلى الإسلام، والعمل به، والدعوة إليه، والثبات عليه حتى الممات.
إن حقيقة هذا الدين: وسطية شاملة جامعة لكل أمور الدين والدنيا والآخرة، بل إنها وجه من وجوه الإعجاز فيه وسبب لصلاحيته لكل زمان ومكان. إن هذه الوسطية تجعل مسؤولية الأمة الإسلامية عظيمة ودورَها في ريادة العالم مُلِحّ، فهي أمة رائدة تقود البشرية إلى ما فيه خيرها وسعادتها، قيادةً تُصان فيها الحقوق، وتتحقق العدالة، وتُحفظ الكرامة، ويُبسط السلام، وتُبنى الحضارة بأسس ثابتة من التقوى والخير والعدل والسلام، بعد أن شقي العالم بألوان الصراعات، وأُنهكت البشرية بأنواع من الصدامات، فإن الأمل – بعد الله – في أن تـنهض هذه الأمة من عثرتها وتفيق من غفلتها وتجمع من شتاتها لتمارس دورها الريادي وتؤسس مشروعها الحضاري بمنهج قويم وصراط مستقيم {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].
شبكة الميلان- مـلازم - Lieutenant
-
علم بلدي :
عدد المساهمات : 229
تاريخ الميلاد : 28/03/1997
تاريخ التسجيل : 23/11/2011
العمر : 27
رد: الوسطية.. حقيقة هذا الدين!
مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووور
Yousry Ragab- عــريــف - Corporal
- الوظيفة : نائب رئيس المجلس العسكري
علم بلدي :
عدد المساهمات : 55
تاريخ الميلاد : 07/07/2000
تاريخ التسجيل : 03/08/2013
العمر : 24
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى